شوقي العيسة
من الماضي 1-4
من الماضي 1
عندما كنت في الثامنة والتاسعة من عمري في اواخر ستينيات القرن الماضي ، كنت ومعي بعض الاصدقاء من جيلي نذهب من المخيم الى بيت لحم كي نشتغل ، كنا نغادر المخيم في الرابعة صباحا مشيا على الاقدام (كنا نسميه باص رقم 11 ) ، وكان اسهل عمل يمكن ان نقوم به بيع الجرائد ، نصل الى مكتبة ابو ياسر في عمارة جامع عمر في ساحة المهد ، وكانت تنافسه احيانا مكتبة حماد في قاع درج السوق القديم (المنارة) ، وكنا معظم الايام نصل قبل ان يصل ابو ياسر ويفتح مكتبته ، وعندما نشعر انه تأخر وكنا نعرف ان بيته يقع في ما يسمى الان حي شارع الكركفة ، ويبعد حوالي كيلو متر واحد عن الساحة ، كنا وبكل سذاجة ننزل الى حيث تقف باصات القدس في ذلك الوقت ، تحت الساحة ، ونبدأ بالصراخ والمناداة عليه كي يصحو ويحضر.
المهم ، يحمل كل منا ما استطاع من الجرائد ، ونسيح في شوارع المدينة لبيعها ، كان احد الشباب حيث كنا نسمي انفسنا شباب ، يكبرنا بعام واحد على الاكثر ويعتبر الاكثر خبرة ، كان يحتكر منطقة القبة (قبر راحيل) ، باعتبارها افضل منطقة للبيع ، حيث يمر منها كل من يريد الذهاب من جنوب الضفة الى شمالها او العكس ، واصحاب المحلات السياحية فيها من النوع الذي يشتري الجرائد ، بعضهم يشتريها كنوع من البرستيج ، والبعض الاخر يتابع انواعا معينة من الاخبار ، اضافة الى بيوت علية القوم الذين يحرصون على عادة قراءة الجريدة ، اما الرعاع والعامة والفقراء من باعة السوق القديم وزبائنه ، فلم يكن يهمهم الامر باستثناء القلة القليلة ، اضافة الى ان الناس بعد هزيمة 67 فقدوا الثقة بكل ما يكتب من اخبار ، باستثناء ابي الذي استمر في اعتبار جمال عبد الناصر الها او خليفة الله على الارض ، وان المؤامرة كانت هائلة عليه ، وكان يطلب مني كل يوم ان اقوم بحفظ كل ما هو مكتوب في الجريدة عن عبد الناصر لاسرده عليه في المساء ، اضافة الى ان الفقراء كانوا يكتفون بسماع الاخبار من الراديو رغم انهم دائما ما كانوا يستاؤون من ثمن احجار(بطاريات) الراديو ، وكانوا احيانا يسخنوها بجانب النار عندما تضعف لاعادة استعمالها ، لم يكن في المخيم كهرباء وقتها. وكنا اثناء بيع الجرائد نقوم ببعض الاعمال الجانبية ، مثلا تطلب منا احدى سيدات المجتمع بعد انتهائها من التسوق ان نحمل مشترياتها ونسير معها الى البيت ، واذا حصل واراد احدهم شراء جريدة اثناء ذلك ، كانت احداهن بالذات تخصم من الاجرة ، يعني كأنها (ميخذتني) تاكسي طلب ممنوع التحميل في الطريق ، كم كرهت تلك السيدة وقتذاك .
في احد الايام عندما كنت ابيع الجريدة في شارع المدبسة ، ناداني احد الاشخاص وكان يملك محلا لبيع السجاد وما شابه ، وكان معروفا كقائد في احد الاحزاب القومية الثورية ، وكان دائما يلبس البدلة الكاملة بقطعها الثلاث ، ويدخن السيجار ويلبس نظارة شمسية كبيرة حتى وهو داخل الدكان ، كانت طريقته في مناداتي والحديث معي سيئة للغاية ، عاملني بدون اي احترام ، كرهته جدا ، اراد مني ان اوزع اوراق دعاية ملونة لدكانه اثناء سيري في الشوارع ، وهددني اذا قمت برميها في الزبالة وعدم توزيعها ، ولم يعرف الغبي انه بذلك دلني على طريقة الانتقام منه ، وفعلتها على مرأى منه حيث القيت اوراقه في الزبالة المقابلة لدكانه وهو ينظر الي .
كنا بعد انتهاء العمل والعودة الى ابي ياسر لتسليم الغلة والحصول على الاجرة ، ننتظر بعضنا كي نعود الى المخيم سويا ، واثناء الانتظار امام المكتبة نستغل الوقت في تصفح المجلات الفنية المصورة ، وكان ابو ياسر يصرخ علينا لكي لا نوسخ او نخرب المجلات .
في طريق العودة اصبح من عادتنا ان نقف امام سينما بيت لحم وسينما الامل نتفرج على اعلانات الافلام ، وكذلك امام (فترينات) المحلات نتفرج على ما فيها ، ودائما كان يأتي من يطردنا وكأننا وباء . ولكن كان هناك دكان واحد (ميني ماركت بلغة اليوم) يختلف عن كل شيء بالنسبة لنا ، كان يقع في شارع جمال عبد الناصر ليس بعيدا عن السينما ويقابل ما كان وقتها فندق حنضل . كانت الواجهة جميلة ويعرض فيها عينات مما يبيعه وخاصة انواع الشوكلاته ، ولم يكن صاحب المحل يطردنا مهما طال زمن وقوفنا امام الواجهة ، واصبحت من العادات الثابتة التي نقوم بها كل يوم ، وقرر الشباب ان افضل انواع الشوكلاته هو الكتكات ، لا ادري على اي اساس حيث لم يسبق لاي منا ان ذاقه ، ولا ادري ايضا لماذا قررت ان اخالفهم واعتبر ان ال باونتي هو الافضل ، رغم اننا ايضا لم يسبق ان ذقناه، واشتد النقاش بيننا دون ان يعرف اي منا عما يتحدث ، واستمر الحال هكذا حوالي شهر الى ان اتخذنا القرار التاريخي بشراء الشوكلاته ، كنا خمسة اذا لم تخني الذاكرة ، وطلبنا اربعة حبات كتكات وحبة باونتي ، وكانت الكارثة التي وقعت علينا حين تبين ان ما معنا من مال لا يكفي ، الا ان صاحب المحل سرعان ما لاحظ ذلك من النظر الى اشكال وجوهنا كيف اصبحت ، فابتسم واعطانا ما طلبنا رغم قلة ما معنا من مال ، وبذلك اصبح بطلا في نظرنا واصبحنا كلما مرننا من هناك نساعده في نقل صناديق او وضعها على الرفوف او ما شابه .
في احد الايام ، وكان قبل احد الاعياد بيوم واحد ، كنا قد انتهينا من العمل وتجمعنا امام المكتبة ، وكان احد الدكاكين المجاورة في عمارة جامع عمر بجوار باب الجامع المطل على ساحة المهد قد فرد بسطة مليئة بالعاب الاطفال ، وتجمع كثير من الناس لشراء الالعاب لاطفالهم ، وقفنا ننظر وكان صاحب المحل ممن يعاملونا باحتقار ، اقترح احدنا ان نسرق كل واحد لعبة وان ذلك سهلا للغاية ، انا اعترضت بشدة ، لم يسبق لي ان قمت بذلك مطلقا ، ولكن الشباب اصروا واعتبروني جبانا ، وفي معرض النقاش (الديموقراطي) بيننا قال احد الشباب ان ذلك يعتبر انتقاما من صاحب المحل ، فاقنعني، وبدأت العملية وقام كل واحد بسرقة لعبة وتخبأتها في ملابسه والابتعاد وبقيت وحدي ، تحيرت ونزل عرقي وبقيت على تلك الحال الى ان عاد احد الشباب ، بعد ان ترك لعبته مع الاخرين ، ونعتني بالجبان مرة اخرى، وقال انه سيسرق واحدة لي ، مما استفزني كثيرا ورفضت اقتراحه ، وسرقت لعبة ، ولكن كانت طريقتي مفضوحة تماما فمسكني صاحب المحل ، ولم استطع الافلات من يده الضخمة ، وبدأ بضربي واصر على اخذي الى مركز الشرطة القريب ، وكان يسألني من انا ومن ابي ومن اين انا ، لم يخرج من فمي اي حرف والتزمت الصمت المطبق ، وكنت اسمع كل من حولي يقولون هذا اكيد من المخيم الله يقطع ولاد المخيمات ، ما جاب البلى للبلد الا اولاد المخيمات ، اهلهم مش عارفين يربوهم ولا يظبوهم ، لا ادري كم من الوقت مضى قبل ان يتدخل رجلين كبيرين في العمر تخيلت وقتها ان عمرهم تجاوز التسعين كانا يجلسان في المقهى المقابل، وطالباه بتركي باعتباري مسكين وان كل المخيمات مساكين ، واقترحا ان يدفعا ثمن اللعبة ، وبعد جدال واخذ ورد تنازل صاحب المحل عن اخذي الى الشرطة ، ورفضت ان يشتري لي العجوزان اللعبة وغادرت المنطقة باسرع ما يمكن . وكانت تلك اول واخر مرة في حياتي اقوم فيها بمثل ذلك العمل . يومها حقدت على كل البشر والحجر، على كل شيء.
وللحديث بقية .........
من الماضي 2
بعدما كتبت في الاسبوع الماضي حول بعض ذكريات الطفولة في مخيم الدهيشة ، (جننني) الاصدقاء لاكتب اكثر حول تلك المرحلة ، سأجرب .....
عندما ولدت عام 62 في تلك الغرفة الصغيرة التي بنتها وكالة الغوث لاسرتي في المخيم، وكان احد الاربعة جدران المكونة للغرفة مشتركا مع غرفة اخرى لاسرة مجاورة ، كان اثنان من رجال العائلة احدهما اخ امي في سجن الجفر في صحراء الاردن، يقضيان ثماني سنوات كمعتقلين سياسيين ، وقد دخلت السجن لاول مرة كزائر عندما كان عمري ثلاث سنوات ، حيث اصطحبتني امي معها لزيارة اخيها ، وقيل لي ان ذلك حصل عام 65 قبل الافراج عنهم بفترة قصيرة . وبعد النكسة باشهر في عام 68 كان احد ابناء العمومة الذي يكبرني باكثر من عشر سنوات واصدقائه من اوائل ان لم يكن اول من شكلوا خلية عسكرية في المخيم ، واقاموا صلات مع حركة فتح من خلال احد قادتها في غزة ، والذي حسب اعتقادي زودهم بالسلاح ، ولكن سرعان ما قبض عليهم واودعوا سجون الاحتلال لعدة سنوات ، بعد الافراج عنهم اصبح ابن العم قائدا فتحاويا ، وفي مرحلة لاحقة اصبح رئيسا لمركز الشباب في المخيم ، وعندما دخلت منظمة التحرير الى غزة واريحا عمل معهم في احد الاجهزة الامنية لفترة قصيرة ، قبل ان يعتزل العمل السياسي نهائيا ، ويعمل الان في مجال البناء . اما ابن خالي الذي يكبرني باحد عشر عاما وكان اصيب بشلل اطفال وعاش حياته مشلولا ، لم يمنعه ذلك من تشكيل خلية مسلحة محلية في المخيم مع بعض اصدقائه وبينهم احدى صبايا العائلة في عام 69 ، ولا ادري كيف استطاعوا تأمين السلاح ، الا انهم نجحوا في تفجير قنبلة قتلت وجرحت بعض الاسرائيليين ، وقبض عليهم اثر ذلك ، وهدمت بيوتهم وحكموا بالمؤبدات بما فيهم ابنة العم ، اما ابن خالي فبسبب وضعه الصحي فقد حكم بعشر سنوات وافرج عنه بعد خمس منها ايضا بسبب تدهور وضعه الصحي ، اما الاخرون فقد خرجوا من السجن في صفقة التبادل الشهيرة عام 85 ، وهؤلاء تنوعت انتماءتهم في السجن فمنهم من اختار الجبهة الديموقراطية ومنهم من انتمى للشعبية او فتح ، اما ابن خالي فقد عاد الى التقليد العائلي الذي بدأ في الاربعينات قبل النكبة وهو الانضمام للشيوعيين . اما ابن عمي الذي يكبرني بخمس سنوات فقام هو واصدقاؤه في عام 72 بتشكيل خلية والبدء بالبحث عن تنظيم يحويهم ويزودهم بالسلاح ، وقاموا بجمع بعض المال وارسال واحدا منهم الى الخارج وهو الذي استطاع من خلال اقارب ومعارف الوصول الى حركة فتح في سوريا والتدرب على صنع القنابل ، وعاد ودرب الاخرين ، وبدأوا العمل ، وفي بداية عام 74 حاولوا زرع قنبلة في سيارة احد الاسرائيليين ، الا انها انفجرت اثناء ذلك واصيب احدهم بجراح ، واعتقلوا بعد ذلك مباشرة وامضوا عدة سنوات في السجون ، وكانوا جميعا في السجن مع حركة فتح الا ان ابن عمي قرر خلال وجوده في السجن الانضمام للشيوعيين الذين بدأوا يملأون السجون اثناء عمل الجبهة الوطنية التي كان احد قادتها العسكريين الشيوعي سليمان النجاب ، وقد تعرض ابن عمي نتيجة لقراره الى اضطهاد شديد من الفتحاويين في السجن. ولا زلت اذكر ليلة اعتقالهم حيث تصادف ان كانت ليلة حفل عرس ابن المختار ، ذلك المختار الذي كان صديقا للاسرائيليين ، وتبين ان ابنه الاخر اخو العريس كان عضوا في خلية ابن عمي التي حاولت زرع القنبلة ، كان عمري 12 عاما وكنت مع غيري من الاطفال في الشارع المجاور لبيت المختار نراقب الاحتفال الذي تضمن فقرات الدبكة الشعبية وعزف على العود من الشخص الوحيد في المخيم الذي كان يجيد ذلك وخاصة اغاني فريد الاطرش ، وجاء الجيش وضباط المخابرات واقتحموا الحارة واعتقلوا ابن المختار وبدأت زوجته تصرخ وتشتم وكانت تمتاز بصوت حاد وعالي جدا ، ثم رأيت الجنود يقتحمون بيت عمي الملاصق لبيت المختار لاعتقال ابن عمي ، وكنت قبل ساعات من ذلك زرت بيت عمي ووجدت ان ابن عمي الذي كان قد بدأ العمل قبل ذلك بيومين في الطراشة والدهان مصابا بحروق في الصدر وقال ان مواد كيماوية انسكبت عليه اثناء العمل ، ولا ادري ان كان ذلك صحيحا ام انه اصيب اثناء انفجار القنبلة .
ولذلك عدت لادخل السجن كزائر للمرة الثانية عندما كان عمري عشر سنوات ، حيث ذهبت مع امي وخالي وزوجته التي هي عمتي ، لزيارة ابن خالي المقعد (رحمه الله) في سجن عسقلان ، وقد سمحوا لنا بالجلوس معه في غرفة بوجود الحراس طبعا ، وذلك كان افضل من رؤيته من خلف الشباك . اما المرة الثالثة فقد كان عمري 12 عاما عندما كنت بصحبة امي وزوجة عمي التي هي ابنة خال امي (كان الجميع يتزوج من نفس العائلة في ذلك الوقت ) ذهبنا لزيارة ابن عمي في سجن نابلس ، اتذكر تلك الزيارة لغرابة ما حصل فيها ، فأمي وزوجة عمي لم يكن على وفاق في اي وقت، وكان التنافس بينهن سيد الموقف دائما ، وكن دائما ضد بعضهن في كل شيء ، وزوجة عمي كانت تختلف عن نساء العائلة فهي الوحيدة في اسرتها بين اخوة ذكور واشتهرت بالعناد والصراخ على الجميع وتحدي الذكور ، ولم نكن نحن الاطفال نشعر بالحنان منها كما الحال من باقي نساء العائلة (باستثناء ابنها الصغير اخر العنقود) ، اثناء الزيارة كان ابن عمي نحيفا ووجهه اصفر ، وكان علينا وضع اصابعنا على الشبك لتلامس اصابعه في الجهة الاخرى ، قلت له فجأة ليش شكلك هيذ ووجهك ابيض ابيض وضعيف ، نظرت الي امه بعينها الواحدة حيث انها فقدت الاخرى لا اعرف كيف ، نظرة قاتلة كلها غضب ، اقتربت امي من اذني وقالت انخم احسنلك، ثم قالت بصوت عال ما شا الله عنه والله وجهه منور زي حبة التفاح ، بطل بطل ، كان ابن عمي من النوع البشوش المبتسم دائما وكان كثير الكلام ولا يزال، ومحببا في كلامه وحاول تلطيف الجو ، الا ان التوتر بقي سيد الموقف ، قالت زوجة عمي انا مش فاهمة لليش جبتي هالمقصوف معك ، قالت امي اسكتي عاد خليه يتعلم ، فردت عليها، يتعلم ، شو بده يطلع غير زعرنجي زي امه ، واحتد الموقف ، وتدخل ابن عمي بنبرة اشد وقال انتن جايات تتقاتلن ولا تزورني ، وبعدين معكن ومع هالعادة. في طريق العودة استمر التوتر وتبادل القصف ، وكانت كل واحدة تقول خلص بلاش فظايح قدام الناس ثم تلقي بجملة استفزازية ، ثم هدأ الجو وساد الصمت ، لا ادري لماذا كنت استمتع بمعاركهن فعندما هدأن ، قلت بس هو ليش وجهه ابيض كثير ، فصرخن علي سوية في نفس اللحظة انخم عاد. ففهمت ان الموقف لا يحتمل وانخميت. بعد فترة بدأت امي تشرح لي بصوت منخفض ان السجناء يميل لون وجوههم للاصفر بسبب الحشر وعدم رؤية الشمس لفترة طويلة .
وعندما اصبح عمري 14 دخلت السجن سجينا ، وتلك قصة اخرى ، اما في تلك الفترة عندما كنت في الحادية عشرة كانت معالم المخيم السياسية قد بدأت تتوضح ، وبدأ يتشح باللون الاحمر حيث انتشر الشيوعيون واعضاء الجبهة الشعبية في كل حارات المخيم اكثر بكثير من الاخرين ، وهذا ادى الى انفتاح في العلاقات الاجتماعية ودور للفتيات ، وكنتيجة لهذا الجو انتشرت العلاقات العاطفية واصبح هناك تزايد في حالات الزواج من خارج العائلة والعلاقات العاطفية اصبحت عابرة للحارات والعائلات والبلدات الاصلية قبل اللجوء ، وكنا نحن الاطفال نعرف الاسرار حيث استخدمنا العشاق كمراسلين . في احد الايام كنت وامثالي نتسرمح على الشارع الرئيسي امام المخيم ، نادتني فتاة من المخيم كانت تنتظر الباص وكانت وقتها في الثامنة عشرة، وسألتني ألست انت ابن عم صديقتي فلانة قلت نعم قالت اريد منك خدمة (وكنت اعرف عن علاقتها باحد شباب حارتنا) قالت اذهب الى فلان (عشيقها) وقل له بينك وبينه دون ان يسمع احد انني سانتظره بعد ساعة خلف مستشفى جبل داود للعظام في بيت لحم ، قلت بشرط فتفاجأت وقالت شو قلت بتعطيني بوسة بروح ، فغضبت وقالت عيب عليك بحكي لبنت عمك ولأهلك ، قلت شو بدك تقوليلهم ، بدك بدك ما بدك بروحش ، بعد فترة صمت ابتسمت وطبعت قبلة على خدي ، وقتها لم اكن اعرف ان هناك انواعا اخرى من القبل ، لم يكن لدينا تلفزيون ولا كهرباء ، انطلقت كالصاروخ الى الغرفة المجاورة لبيت اهله ، كانت العادة في ذلك الوقت ان تبني الاسرة بيتا بجوار غرفة وكالة الغوث الاصلية وتبقي الغرفة ليستخدمها ابن الاسرة عندما يصبح في التوجيهي للدراسة وفي العادة يشاركه اقرانه ممن ليس لديهم مثل تلك الغرفة ، وتصبح في فترة الامتحانات المهمة الاساسية للام والاخوة الصغار نقل الشاي من البيت الى مناضلي التوجيهي، عندما وصلت كان اثنان من اصدقائه هناك في انتظاره حيث ذهب الى البيت لاستعجال خدمات الشاي، حاولا جهدهما لمعرفة ماذا اريد منه ، وكان واضحا انهما يعرفان بعلاقته الا انني رفضت اخبارهما حتى عاد واخذته جانبا واخبرته ، بعد سنوات عندما اصبحت في الثانوي كان ذلك العاشق قد انهى دراسته الجامعية واصبح يعلمنا في المدرسة ، وبعد ذلك التقينا في السجن واخبرته عن قبلة عشيقته قبل سنين وكان يعرف .
وللحديث بقية ........
من الماضي 3
في اواسط السبعينيات اشتد التنافس بين التنظيمات في المخيم، واصبح كل تنظيم يكرس جهدا كبيرا وخططا لاستقطاب اعضاء جدد ، وخاصة الشعبية والشيوعيون، كان السباق بينهما على اشده ، كل ذلك رغم ان الصبغة العامة للانضمام للتنظيمات كانت بالتوريث، (كلكم على دين ابيه) ، فاذا كان الاب او الاخ الاكبر في تنظيم معين ، تجد كل الاخوة والاقارب ينضمون الى ذلك التنظيم ، في الاغلبية الساحقة من الحالات ، لذلك كان التنافس بالاساس على الافراد الذين اهاليهم غير منظمين ، وكان ان تركز على الشخص الاكثر ذكاءا او مالا او نشاطا في الاسرة وصاحب شخصية قوية، واذا نجحت في استقطابه فانك تكسب العائلة كلها ، بالجملة ، ولكن كان هناك بعض الحالات التي تشذ عن القاعدة، كأن يظهر بين الاخوة واحدا يريد ان يتيمز عن الاخرين فيختار تنظيما غير تنظيم الاسرة او العائلة ، واذا كان ذكيا وشخصيته قوية يبدأ التنافس داخل الاسرة ، ولذلك اصبحت تجد في الاسرة الواحدة ، مع مرور الوقت ، اشخاصا ينتمون لتنظيمات مختلفة ، الا ان الصورة العامة بقيت تحافظ على نفسها ، في ذلك الوقت مثلا ، كان الشخص الذي اعتبر قائدا للشعبية وتبعه اخوته واقاربه ، له اخ اصبح قائدا في فتح ، وكذلك فان احد قادة فتح وكان الاكثر تميزا وذكاء بينهم نصف اخوته انضموا للشعبية ، وفي عائلتنا في النصف الثاني من السبعينات ترك احد ابناء العمومة وكان ناشطا بارزا مع الشيوعيين تركهم وانضم للشعبية وتبعه كل اخوته ، وانضمت احدى صبايا العائلة للديموقراطية رغم ان الجبهة الديموقراطية كانت الاضعف بين التنظيمات الاربعة في المخيم ، وفي مرحلة لاحقة انضمت اسرة من العائلة بذكورها واناثها الى فتح واصبحت الكبرى بينهن قائدة في فتح ، الا ان الصبغة العامة للعائلة بقيت شيوعية . وكان في المخيم وجود لتنظيمات اخرى مثل جبهة النضال وان بشكل محدود، ولوحظ كذلك ان كثيرا من ابناء الاقليات ، اي العائلات قليلة العدد او ان عدد اللاجئين من بلدهم الاصلي في المخيم قليلا ، اصبحوا يبحثون عن تنظيم قوي يضمهم وينشطون من خلاله مما يقوي وضعهم ومكانتهم ويشكل حماية وعزوة لهم في المخيم . وكان ملاحظا في ذلك الوقت ان كثيرا من نشطاء التنظيمات المختلفة البارزين كانوا في وقت ما في الستينات وبداية السبعينيات مع الشيوعيين ثم انتقلوا الى تنظيماتهم ، وكأن الحزب شكل معبرا او (كوريدورا) يمر منه النشطاء مما يعني ان خللا ما كان في الحزب واساليب عمله وقيادته. التنافس الاشد في النصف الثاني من عقد السبيعنات وخاصة بين الشعبية والشيوعيين كان على الفوز في انتخابات مركز الشباب (النادي) . في كل الاحوال كان المخيم يعيش مدا ثوريا غير مسبوق وكان الاحتكاك مع جنود الاحتلال والمستوطنين بشكل يومي ، وساعد على ذلك موقع المخيم ، حيث الشارع الذي يمر امام المخيم كان الوحيد الذي يربط بين القدس والخليل او لنقل بين وسط وشمال الضفة وجنوبها ، وكانت مدرستي وكالة الغوث تقعان على الشارع مباشرة ، وكان طلاب المرحلة الاعدادية يشاهدون ما يجري من احتكاكات ورجم حجارة وموليتوف على الجيش باستمرار ، واصبح هؤلاء الطلاب يشاركون وكل منهم يبحث عن تنظيم ينشط من خلاله ، ومن اطرف قصص تلك الفترة ، قصة اختياراحد اصدقائي الحاليين لتنظيمه ، اثناء المرحلة الاعدادية في السبعينيات، يقول كنت من جيل ابن عمك الصغير اخر العنقود ، وكان ابن عمي وقتها يعتبر نفسه شيوعيا بحكم الوراثة ، رغم انه لم يكن يعرف عن الشيوعية وقتها سوى بعض العناوين والشعارات العامة ، يقول صديقي بدأت اتقرب منه واصادقه ، وفي احد الايام دعاني للغداء في بيته مع شخصين اخرين ، وكان الغداء كثيرا من الخبز مع علبة لبن شمينت وعلبة سردين (هذا قبل ان تنتشر اشاعة قوية في المخيم بان اكل اللبن والسردين معا يسمم الشخص وصدقناها مع اننا كنا نأكلهما كثيرا ولم نتسمم ) ، يقول : فقلت باسم الله الرحمن الرحيم ووضعت اللقمة في فمي ، فصرخ بي ابن عمك الله لا يعطيه عافية ، يجب ان تقول باسم الفلاح الذي حرث الارض وباسم الفلاح الذي زرع وباسم الفلاح الذي حصد وباسم الذي طحن والذي خبز والعامل الذي صنع الخ......، فوقفت اللقمة في زوري ، وفكرت اذا تليت كل هذه المقطوعة يكونوا قد قضوا على السردين والشمينت ، وسابقى جائعا دائما ، لان كل الموائد عليها كثير من الافواه وقليل من الطعام ، فقررت ان لا اصبح شيوعيا ، وبدأت ابحث عن تنظيم اخر، وكنت احب الدبكة واطمح ان اصبح (لويحا ) اي قائدا لفرقة دبكة ، وكان لدى الشعبية فرقة دبكة مميزة فذهبت اليهم ، ولكني لم اعجب المدرب وكرهني ولم يعد هناك املا ان اصبح لويح الفرقة او حتى دبيكا عاديا فيها فتركتهم ، وذهبت الى فتح ، وفتح صدرها واسع يتسع لاي كان ، يقول كنت انا ومن معي في المجموعة متعجلين ونريد القيام بعمل مسلح ، الا ان فتح كانت تعتبر اننا ما نزال صغارا ومن المبكر القيام بذلك ، فقمت انا ومن معي بمراقبة احد قادة فتح وعرفنا اين يخبئ البندقية وسرقناها واطلقنا النار على سيارة اسرائيلية ، وقبض علينا وقضيت خمس سنوات في السجن .
اما انا عندما كان عمري اربعة عشر عاما فقد ارتكبت اخطر حماقة في حياتي والتي كادت تودي بحياة ابن خالي الذي يصغرني بعدة سنوات ، وتلك قصة اخرى .
وللحديث بقية ..........
من الماضي 4
ابن خالي ، كان الكل يعامله معاملة خاصة ، فهو جاء بعد اربع بنات وكان طفلا مبتسما دائما ، اضافة الى خوف الجميع من غضب والده الذي (رحمه الله) كان عصبي المزاج ويغضب بسرعة ، وكان أن مرض الطفل مرضا خطيرا ، تطلب نقله الى مستشفى هداسا الاسرائيلي لاجراء عملية جراحية في صدره ، وكانت كل العائلة تذهب لزيارته في المستشفى ، وخاصة لتلافي غضب والده . في المستشفى كان مسموحا لثلاثة اشخاص فقط الدخول للزيارة ويعطى لكل مريض ثلاث بطاقات يسمح لحاملها بالدخول ، كان عمري 14 عاما ، وكنت ارافقهم الى المستشفى وادخل ثم اجمع بطاقات من دخل واخرج بها لادخال اخرين بنفس البطاقات ، وكانت تحدث مشاكل كثيرة عندما يرى المسؤولون اكثر من ستة اشخاص في غرفة ابن خالي ، وكنت اتولى الترجمة ، حيث كنت من المتفوقين في المدرسة وخاصة في اللغة الانجليزية ، ولم يكن وقتها احد يجيد العبرية ، وفي احد الايام كنا ثمانية في المستشفى ، وعند المغادرة للعودة الى المخيم كانت المشكلة ان السيارة تتسع لسبعة فقط ، وكان خالاي الاثنين قد تأخرا على دوامهما والباقي نساء فقالت امي انت بتروح في الباص ، فرحت طبعا لان هذا يعني انني استطيع التسكع في شوارع القدس وحيدا، خاصة ان الجو صيفي ، تعرفون ماذا اقصد طبعا ، وهذا ما فعلت ، ثم استقليت باص ايجد لانتقل من القدس الغربية الى باب الخليل في الشرقية ، وفي الطريق صعد الى الباص ثلاث اجانب ، وسألوني ان كنت اعرف الانجليزية ، فاجبت بنعم طبعا ، ارادوا التأكد ان الباص الذي نحن فيه يوصل الى باب يافا ، ولم اكن اعرف ان باب الخليل بالانجليزية يسمى باب يافا ، فقلت لهم لا عليكم النزول والبحث عن باص اخر ، وعندما طلبوا من السائق انزالهم معتذرين لانهم يريدون الذهاب الى باب يافا ، تفاجأ السائق وقال انا ذاهب الى هناك ، فقالوا مشيرين الي هو قال لنا غير ذلك ، نظر السائق الي شزرا ورطن شيئا بالعبرية ، ثم فهم انني عربي من ردة فعلي فقال بالعربية وكان يهودي عراقي ، ايش انت ما تفهم ، لا تتدخل .
في اليوم الذي تقرر فيه خروج ابن خالي من المستشفى ، لم يستطع خالي الذهاب لسبب لا اتذكره الان ، فقال لي ، عليك الذهاب لاحضاره الى البيت ، خذ مصاري وبتوخذ تاكسي طلب وبيجيبه ، فكرت ان هذه فرصة لاحقق امنيتي بالركوب في الجيب الوحيد في المخيم وهو جيب قديم يملكه احد الاشخاص المتهورين ولم يكن للجيب ابواب او سقف ، وكان السائق ومن بجواره يضعون سلاسل (جنازير) بدل الابواب وفي الخلف لوح خشبي (دكيت) بدل الكراسي ، فذهبت اليه وفرح طبعا ان احدا يريد استخدامه وانه سيربح مالا ووافقت على المبلغ الذي طلبه ، قائلا بشرط ان تنزل الزجاج الامامي فوق غطاء الماتور ووافق، انطلقنا الى المستشفى واخرجنا ابن خالي المسكين الذي كان قد اجرى عملية جراحية في صدره قبل ايام ، ووضعته على اللوح الخشبي في الخلف ، للحقيقة قال السائق دعه يجلس مكانك ، فقلت لا يستطيع وادعيت ان الطبيب قال لي يجب ان يبقى ممددا ، اعتقد ان السائق لم يكن بعقله يومها واظن انه كان قد شرب شيئا ما، وانا في الطريق كنت اقول له باستمرار اسرع ، ويبدو ان عقلي انا كان في اجازة ذلك اليوم ، ابن خالي المسكين كان يأن ويتعذب ، وخاصة على المطبات ، سيارة الجيب كانت اخر ما يمكن ان تفكر به لنقل مريض في تلك الحال، عندما وصلنا الى الحارة في المخيم كان الجميع في الاستقبال ، ولاحظت ان خالي عندما رأى الجيب بدأ الشرر يتطاير من عينيه ، وكانت الكارثة ان ابن خالي المسكين كان في النزع الاخير ، وان مكان العملية قد انفتح والدم ينزف ، وكان في خطر حقيقي ، وبدأ الجميع بالصراخ ، فهربت وغادرت المخيم كله ، الله ستر لان سيارة اسعاف لوكالة الغوث كانت في مكان قريب واعادته الى المستشفى ، وبقيت مختفيا خارج المخيم الى ان تم التأكد من زوال الخطر على حياته ، لان خالي كان قد حلف اغلظ الايمان انه سيقطعني شقفا ، وبدأت الوساطات لمسامحتي ولكن دون فائدة ، واصبح لا مفر من تدخل خالي الذي يسكن في بيت لحم خارج المخيم ، ودائما كلمته تكون الاخيرة ولا احد يخالفه ، وهذا ما كان ، وعدت وعاش ابن خالي امد الله في عمره .
وللحديث بقية ..........
Add new comment